سبتمبر 1881 تاريخ لا يُنسى؛ عندما وقف الزعيم أحمد عرابى فى عابدين أمام الخديوى يعلن أننا لن نورَّث بعد اليوم لأننا قد خُلقنا أحراراً، وكانت شرارة الثورة العرابية، نحتفل بهذه الذكرى كل عام وننسى أن صاحب هذه الذكرى مات بالاكتئاب نتيجة لقصته الميلودرامية المثيرة التى لا أعرف حتى الآن كيف لم تتحول إلى عمل درامى؟!، لكن كيف قتله الاكتئاب؟.

قتل الاكتئاب أحمد عرابى الذى ذهب ضحية الحكم السياسى العاجل الذى لا يترك لحكم التاريخ المتأنى فرصته، وكان مصدر اكتئاب عرابى وهو فى منفاه بجزيرة سيلان الصراع بين حنينه لوطنه واختناقه فى غربته والذى يحله مجرد التماس يقدمه للإنجليز، وبين ماضيه العطر الذى يمتلئ كراهية لهم، وفى النهاية تغلب الحنين، وبدأت لغة عرابى الثائرة المتمردة الجامحة تتحول إلى مجرد يمامة وديعة تلتقط حبات القمح من حجر الإنجليز، فصار الذى قال: «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً.. فوالله الذى لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم»، صار يلتمس وهو فى منفاه من جورج الخامس ولىّ عهد إنجلترا العفو والسماح، فيقول فى مذكراته: «عرضت على سموّه أنى أعتبر تشريفه للجزيرة فكاكاً لنا من الأسر، فتكرّم علينا بأنه سيسعى لدى الخديوى فى تحقيق أمنيتنا»، ولم يسامحه الناس ويغضوا الطرف عن لغته التى يشوبها بعض النفاق ويعتبرونها من قبيل النفاق الأبيض الحلال، وحتى الزعيم مصطفى كامل لم يلتمس له العذر ولم يراع الظروف التى كتب فيها هذا الخطاب وهاجمه بقسوة فى جريدة اللواء فى 3 يونيو 1901 قائلاً «نحن لا نجهل شوق المنفىّ إلى مسقط رأسه، وحنينه إلى وطن آبائه وأجداده، ولكن كم من شهم أحنت الأيام ظهره، واشتعل الرأس شيباً وهو فى نفيه يتجرع مضض الابتعاد عن الأهل والأحباب، ويأبى العودة لبلاده احتراماً لمبدأ لم يتحقق، أو رعاية لغاية لم تتم»، ويكرر مصطفى كامل هجومه فى عدد آخر عند عودة عرابى قائلاً: «ما عار الاحتلال، وعار الجهالة والتأخر والفقر بشىء يُذكر إذا قورن بالعار الذى يحمله عرابى، ويقرأه الناس على وجهه أينما سار وحيثما حل، وأى عار أكبر وأشهر من عار رجل تهور جباناً واندفع جاهلاً، وساق أمته إلى مهواة الموت الأدبى، والاستعباد الثقيل ثم فر هارباً من ميادين القتال، وتوسل إلى عدوه المحارب أن يعفو عنه، وأبت عليه نفسه أن يموت فى منفاه، وألا يرجع إلى وطن هو مرجع شقائه».

وعندما وصل عرابى إلى ميناء السويس فى التاسع والعشرين من سبتمبر بعد مقال مصطفى كامل بيوم واحد، كان المناخ مهيَّأ لافتراس الأسد العجوز الذى تم تقليم أظافره ونزع أنيابه فى أرض الغربة، ونشر أحمد شوقى قصيدة فى نفس اليوم يقول مطلعها:

«صغار فى الذهاب وفى الإياب أهذا كل شأنك يا عرابى»

واعتبر الشعب أن عرابى تم تدجينه على أيدى الاحتلال، هذا الشعب الذى قال عند هزيمته «الولس كسر عرابى» أى أن الخيانة هى التى هزمته وليس الإنجليز، لكنهم عند عودته ذبحوه بسكين بارد، وظل عرابى حبيس بيته العتيق فى المنيرة مكتئباً لا يغادره إلا للصلاة، وسقط من ذاكرة الجميع، وفى مساء 21 سبتمبر 1911 جاء بائع الزبادى ليطرق الباب كالعادة، فتح له عجوز متهالك تمتم له بكلمات غامضة بعدها راح فى غيبوبة عميقة، وتساقطت قطرات الزبادى الذى كان يحبه على ذقنه البيضاء الثلجية، وعندما عاد البائع فى اليوم التالى لم يجبه أحد، وعلم بموت الرجل العجوز الذى يُدعى عرابى، وتسرب الخبر وكان تعليق الناس من فرط الدهشة: «هو كان لسه عايش، ده إحنا افتكرناه مات من زمان»، وظل عرابى فى بيته راقداً على فراش الموت لا يجد أهله المال اللازم لتكفينه ودفنه، وانتظر الأهل الفرج الذى جاء بضربة حظ حين أمرت وزارة المالية بصرف المعاشات مبكراً قبل عيد الفطر، وكان الناس يجهزون كعك العيد وجنازة عرابى تسير فى صمت ليس فيها إلا عائلته الصغيرة فقط، وتم دفن الزعيم ولكن سيرته العطرة لم تُدفن معه، سيرة من ظلمته السياسة وأنصفه التاريخ.